فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم علي بن أبي طالب.
وأخرج هو وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري ما يؤيده. وعندي أن بغضه رضي الله تعالى عنه من أقوى علامات النفاق فإن آمنت بذلك فيا ليت شعري ماذا تقول في يزيد الطريد أكان يحب عليًا كرم الله تعالى وجهه أم كان يبغضه. ولا أظنك في مرية من أنه عليه اللعنة كان يبغضه رضي الله تعالى عنه أشد البغض وكذا يبغض ولديه الحسن والحسين على جدهما وأبويهما وعليهما الصلاة والسلام كما تدل على ذلك الآثار المتواترة معنى. وحينئذٍ لا مجال لك من القول بأن اللعين كان منافقًا. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة علامات للنفاق غير ما ذكر كقوله عليه الصلاة والسلام: «علامات المنافق ثلاث» الحديث لكن قال العلماء هي علامات للنفاق العملي لا الإيماني. وقيل: الحديث خارج مخرج التنفير عن اتصاف المؤمن المخلص بشيء منها لما أنها كانت إذ ذاك من علامات المنافقين.
واستدل بقوله تعالى: {ولتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القول} من جعل التعريض بالقذف موجبًا الحد. ولا يخفى حاله {والله يَعْلَمُ أعمالكم} فيجازيكم عليها بحسب قصدكم وهذا على ما قيل وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين؛ وقيل: وعيد للمنافقين وإيذان لهم بأن المجزى عليه ما يقصدونه لا ما يعرضون أو يورون به. واستظهر أنه خطاب عام فهو وعد ووعيد. وحمل على العموم قوله تعالى: {ولنبلونكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوأَخْبَارَكُمْ (31)}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)}.
الفاء يجوز أن تكون للتفريع على جملة {إن الذين ارتدوا على أدبارهم} [محمد: 25] الآية وما بينهما متصل بقوله: {الشيطانُ سول لهم} [محمد: 25] بناء على المحمل الأول للارتداد فيكون التفريع لبيان ما سيلحقهم من العذاب عند الموت وهو استهلال لما يتواصل من عذابهم عن مبدإ الموت إلى استقرارهم في العذاب الخالد.
ويجوز على المحمل الثاني وهو أن المراد الارتداد عن القتال وتكون الفاء فصيحة فيفيد: إذا كانوا فروا من القتال هلعًا وخوفًا فكيف إذا توفتهم الملائكة. أي كيف هلعهم ووجلهم الذي ارتدوا بهما عن القتال.
وهذا يقتضي شيئين: أولهما أنهم ميّتون لا محالة. وثانيهما أن موتتهم يصحبها تعذيب.
فالأول مأخوذ بدلالة الالتزام وهو في معنى قوله تعالى: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لوأطاعُونا ما قتلوا قل فادْرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} [آل عمران: 168] وقوله: {وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنم أشدّ حرًّا لوكانوا يفقهون} [التوبة: 81].
والثاني هو صريح الكلام وهو وعيد لتعذيب في الدنيا عند الموت.
والمقصود: وعيدهم بأنهم سيعجل لهم العذاب من أول منازل الآخرة وهو حالة الموت.
ولما جعل هذا العذاب محققًا وقوعُه رتب عليه الاستفهام عن حالهم استفهامًا مستعملًا في معنى تعجيب المخاطب من حالهم عند الوفاة. وهذا التعجيب مؤذن بأنها حالة فظيعة غير معتادة إذ لا يتعجب إلاّ من أمْر غير معهود. والسياق يدل على الفظاعة.
و{إذا} متعلق بمحذوف دل عليه اسم الاستفهام. تقديره: كيف حالهم أو عملهم حين تتوفاهم الملائكة.
وكثر حذف متعلّق {كيف} في أمثال هذا مقدَّرًا مؤخرًا عن {كيف} وعن {إذا} كقوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} [النساء: 41].
والتقدير: كيف يصنعون ويحتالون.
وجعل سيبويه {كيف} في مثله ظرفًا وتبعه ابن الحاجب في الكافية.
ولعله أراد الفرار من الحذف.
وجملة {يضربون وجوههم وأدبارهم} حال من {الملائكة}.
والمقصود من هذه الحال: وعيدهم بهذه المِيتة الفظيعة التي قدرها الله لهم وجعل الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم. أي يضربون وجوههم التي وَقَوْهَا من ضرب السيف حين فرُّوا من الجهاد فإن الوجوه مما يقصد بالضرب بالسيوف عند القتال قال الحريش القريعي. أو العباس بن مدراس:
نعرّض للسيوف إذا التقينا ** وجوهًا لا تُعرض للنظام

ويضربون أدبارهم التي كانت محل الضرب لوقاتلوا. وهذا تعريض بأنهم لوقاتلوا لفرُّوا فلا يقع الضرب إلا في أدبارهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}.
الإشارة بذلك إلى الموت الفظيع الذي دل عليه قوله: {فكيف إذا توفتهم الملائكة} [محمد: 27] كما تقدم آنفًا.
واتباعهم ما أسخط الله: هو اتباعهم الشرك.
والسخط مستعار لعدم الرضى بالفعل.
وكراهتهم رضوان الله: كراهتهم أسباب رضوانه وهو الإسلام.
وفي ذكر اتباع مَا أسخط الله وكراهة رضوانه محسّن الطباق مرتين للمضادة بين السخط والرضوان. والاتباع والكراهية.
والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله. وأن ضربهم أدبارهم مناسب لكراهتهم رضوانه لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار. ففي الكلام أيضًا محسن اللف والنشر المرتب.
فكان ذلك التعذيب مناسبًا لحالَيْ توقيهم في الفرار من القتال وللسببين الباعثين على ذلك التَوقي.
وفرع على اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه قوله: {فأحبط أعمالهم} فكان اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه سببًا في الأمرين: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الوفاة. وإحباط أعمالهم.
والإحباط: إبطال العمل. أي أبطل انتفاعهم بأعمالهم التي عملوها مع المؤمنين من قول كلمة التوحيد ومن الصلاة والزكاة وغير ذلك.
وتقدم ما هو بمعناه في أول السورة.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)}.
انتقال من التهديد والوعيد إلى الإنذار بأن الله مطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يضمره المنافقون من الكفر والمَكر والكيد ليعلموا أن أسرارهم غير خافية فيوقنوا أنهم يكدون عقولهم في ترتيب المكائد بلا طائل وذلك خيبة لامالهم.
و{أمْ} منقطعة في معنى (بل) للإضراب الأنتقالي. والاستفهام المقدر بعد {أم} للأنكار.
وحرف (لن) لتأييد النفي. أي لا يحسبون انتفاء إظهار أضغانهم في المستقبل. كما انتفى ذلك فيما مضى. فلعل الله أن يفضح نفاقهم.
واستعير المرض إلى الكفر بجامع الإضرار بصاحبه. ولكون الكفر مقره العقل المعبر عنه بالقَلب كان ذكر القلوب مع المرض ترشيحًا للاستعارة لأن القلب مما يناسب المرض الخفيّ إذ هو عضوباطن فناسب المرض الخفيّ.
والآخراج أطلق على الإظهار والإبراز على وجه الاستعارة لأن الآخراج استلال شيء من مكمَنه. فاستعير للإعلام بخبَر خفيّ.
والأضغان: جمع ضِغن بكسر الضاد المعجمة وسكون الغين المعجمة وهو الحقد والعداوة.
والمعنى أنه يخرجها من قلوبهم وكان العرب يجعلون القلوب مقر الأضغان قال الشاعر. وهو من شواهد المفتاح للسكاكي ولا يعرف قائله:
الضارِبين بكلّ أبيضَ مِخْذَم ** والطاعنين مَجَامع الأضغَان

{ولو نشاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ولتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)}.
كان مرض قلوبهم خفيًا لأنهم يبالغون في كتمانه وتمويهه بالتظاهر بالإيمان. فذكر الله لنبيئه صلى الله عليه وسلم أنه لوشاء لأطلعه عليهم واحدًا واحدًا فيعرف ذواتهم بعلاماتهم.
والسّيمَى بالقصر: العَلامة الملازمة. أصله: وِسْمَى بوزن فِعلى من الوسم وهو جعل سمة للشيء. وهو بكسر أوله.
فهو من المثال الواوي الفاء حولت الواومن موضع فاء الكلمة فوضعت في مكان عين الكلمة وحولت عين الكلمة إلى موضع الفاء فصارت سِوْمَى فانقلبت الواوياء لسكونها وانكسار ما قبلها. وتقدم عند قوله تعالى: {تعرفهم بسيماهم} في سورة البقرة (273).
والمعنى: لأريناكَ أشخاصهم فعرفتهم. أولذكرنَا لك أوصافهم فعرفتهم بها ثم يحتمل أن الله شاء ذلك وأراهم للرسول فعن أنس ما خفي على النبي بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ذكره البغوي والثعلبي بدون سند.
ومما يروى عن حذيفة ما يقتضي أن النبي عرفه بالمنافقين أوببعضهم. ولكن إذا صح هذا فَإن الله لم يأمر بإجرائهم على غير حالة الإسلام. ويحتمل أن الله قال هذا إكرامًا لرسوله ولم يطلعه عليهم.
واللام في {لأريناكهم} لام جواب {لو} التي تزاد فيه غالبًا.
واللام في {فلعرفتهم} تأكيد لِلام {لأريناكهم} لزيادة تحقيق تفرع المعرفة على الإراءة.
{بسيماهم ولتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ}.
هذا في معنى الاحتراس مما يقتضيه مفهو م {لونشاء لأريناكهم} من عدم وقوع المشيئة لإراءته إياهم بنعوتهم.
والمعنى: فإن لم نرك إياهم بسيماهم فلتقعن معرفتك بهم من لحن كلامهم بإلهام يجعله الله في علم رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى عليه شيء من لحن كلامهم فيحصل له العلم بكل واحد منهم إذا لحن في قوله. وهم لا يخلو واحد منهم من اللحن في قوله. فمعرفة الرسول بكل واحد منهم حاصلة وإنما ترك الله تعريفه إياهم بسيماهم ووكله إلى معرفتهم بلحن قولهم إبقاء على سنة الله تعالى في نظام الخلق بقدر الإمكان لأنها سنة ناشئة عن الحكمة فلما أريد تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على دخائل المنافقين سلك الله في ذلك مسلك الرمز.
واللام في {ولتعرفنهم} لام القسم المحذوف.
ولحن القول: الكلام المحال به إلى غير ظاهره ليفطن له من يُراد أن يفهمه دون أن يفهمه غيره بأن يكون في الكلام تعريض أوتورية أو الفاظ مصطلح عليها بين شخصين أوفرقة كالألفاظ العلمية قال القتَّال الكِلائي:
ولقد وَحيت لكم لكيما تفهموا ** ولحنتُ لحنًا ليس بالمرتاب

كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذهم بظاهر كلامهم فنبهه الله إليه فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم.
{القول والله يَعْلَمُ}.
تذييل. فهو لعمومه خطاب لجميع الأمة المقصود منه التعليم وهو مع ذلك كناية عن لازمه وهو الوعيد لأهل الأعمال السيّئة على أعمالهم. والوعد لأهل الأعمال الصالحة على أعمالهم. وتنبيه لأهل النفاق بأن الله يوشك أن يفضح نفاقهم كما قال آنفًا {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم} [محمد: 29].
واجتلاب المضارع في قوله: {يعلم} للدلالة على أن علمه بذلك مستمر. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَيَقول الَّذِينَ آمنوا لولا نُزِّلَتْ سُورَةٌ}.
هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله. وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحوذلك مما هو ظهور للإسلام. فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ. والله تعالى قد جعل ذلك باماد مضروبة وأوقات لا تتعدى. فمدح الله المؤمنين بحرصهم. وقولهم: {لولا نزلت سورة} معناه: تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال.
وقوله: {محكمة} معناه: لا يقع فيها نسخ. وبهذا الوجه خصص السورة بالأحكام. وأما الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان. فالقرآن فيه كله سواء. وقال قتادة: كل سورة فيها القتال فهي محكمة. وهو أشد القرآن على المنافقين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن. وليس من تفسير هذه الآية في شيء.
وفي مصحف ابن مسعود: سورة محدثة. والمرض الذي في القلوب: استعارة لفساد المعتقد وحقيقة الصحة والمرض في الأجسام. وتستعار للمعاني. ونظر الخائف المو له قريب من نظر {المغشي عليه}. وخسسهم هذا الوصف والتشبيه.
وقوله تعالى: {فأولى لهم} الآية. أولى: وزنه أفعل. من وليك الشيء يليك. وقالت فرقة وزنه: أفلع. وفيه قلب. لأنه مشتق من الويل. والمشهور من استعمال أولى: أنك تقول: هذا أولى بك من هذا. أي أحق. وقد تستعمل أولى فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول. فتقول على جهة الزجر والتوعد: أولى لك يا فلان. وهذه الآية من هذا الباب. ومنه قوله تعالى: {أولى لك فأولى} [القيامة: 34-35]. ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للحسن: أولى لك. وقالت فرقة من المفسرين: أولى رفع بالابتداء. و: {طاعة} خبره.
وقالت فرقة من المفسرين: {أولى لهم} ابتداء وخبر. معناه: الزجر والتوعد. ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله: {طاعة وقول معروف} فقال بعضها. التقدير: {طاعة وقول معروف} أمثل. وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه. وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة. ففيها بعض التعريف. وقال بعضها التقدير: الأمر {طاعة وقول معروف}. أي الأمر المرضي لله تعالى. وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة {طاعة وقول معروف} فإذا عزم الأمر كرهوه. ونحوهذا من التقدير قاله قتادة. وقال أيضًا ما معناه: إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد بـ: أولى. وقوله: {لهم} ابتداء كلام. فـ: {طاعة} على هذا القول: ابتداء. وخبره: {لهم} والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة. فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا.
وقوله: {عزم الأمر} استعارة كما قال:
قد جدت الحرب بكم فجدوا